فصل: الحكم الثاني: هل تجوز قراءة القرآن بالتلحين؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.وجوه القراءات:

1- قرأ الجمهور {يا أيها المزمل} بتشديد الزاي والميم، وقرأ أبي بن كعب وأبو العالية {المتزمل} بإظهار التاء على الأصل.
2- قرأ الجمهور {هي أشد وطا} وقرأ ابن عامر وأبو عمرو {وطاء} بكسر الواو مع المد وقرأ ابن محيصن {أشد وطاء} بفتح الواو، والطاء، وبالمد.

.وجوه الإعراب:

1- قوله تعالى: {يا أيها المزمل قم اليل إلا قليلا}. {المزمل} صفة ل (أي) قال ابن مالك: وأيها مصحوب (أل) بعد صفة. و{نصفه} بدل من الليل، بدل بعض من كل.
قال الزمخشري: {نصفه} بدل من الليل، و{إلا قليلا} استثناء من النصف، كأنه قال: قم أقل من نصف الليل، والضمير في {منه} يعود للنصف.
2- قوله تعالى: {أشد وطأ} لفظ {أشد} خبر المبتدأ، و{وطأ} تمييز، وجملة {هي أشد وطأ} خبر {إن}.
3- قوله تعالى: {وتبتل إليه تبتيلا} تبتل: أمر و{تبتيلا} مفعول مطلق وهو غير جار على فعله، والأصل فيه أن يقال (تبتلا) ولأن وزن (تفعيل) إنما تجيء في مصدر (فعل) كقولهم: رتل ترتيلا، وأما وزن (تفعل) فيأتي المصدر (تفعلا) إلا أنهم قد يجرون المصدر على غير فعله كقول الشاعر:
وخير الأمر ما استقبلت منه ** وليس بأن تتبعه اتباعا

فأجرى اتباعا مصدرا على (تتبع) والقياس (تتبعا) والشواهد على هذه كثيرة.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى:
الحكمة في ندائه صلى الله عليه وسلم بوصف التزمل هو إرادة (الملاطفة والإيناس) على نحو ما كان عليه العرب في مخاطباتهم من اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه، لما غاضب فاطمة وذهب إلى المسجد فنام فيه- وكان قد لصق بجنبه التراب-: «قم أبا تراب»، «قم أبا تراب»، للمؤانسة والملاطفة.
اللطيفة الثانية:
سبب التزمل ما روي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثثت (فزعت) منه رعبا فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله: {يا أيها المدثر} [المدثر: 1] و{يا أيها المزمل}».
فسبب التزمل هو ما عراه صلى الله عليه وسلم من الرعب والفزع من رؤية الملك على صورته الملكية.
اللطيفة الثالثة:
ذكر الله تعالى في كتابه العزيز ثلاثة أشياء وصفها ب (الجميل) وأمر بها نبيه عليه الصلاة والسلام وهي: قوله تعالى: {فاصبر صبرا جميلا} [المعارج: 5]... {واهجرهم هجرا جميلا}... {فاصفح الصفح الجميل} [الحجر: 85].
فالصبر الجميل الصبر الذي لا شكوى معه.
والهجر الجميل الهجر الذي لا أذية معه.
والصفح الجميل الصفح الذي لا عتاب معه.
اللطيفة الرابعة:
«في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، فقالت له السيدة عائشة: أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال لها عليه السلام: أفلا أكون عبدا شكورا»!! فصلوات ربي وسلامه على نبيه المصطفى وحبيبه المجتبى.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: هل قيام الليل كان فريضة على الرسول صلى الله عليه وسلم؟

ظاهر قوله تعالى: {قم اليل إلا قليلا} أن التهجد كان فريضة عليه صلى الله عليه وسلم وأن فرضيته كانت خاصة به، ومما يدل عليه قوله تعالى في سورة الإسراء [79] {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} فإن قوله: {نافلة لك} بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه عليه الصلاة والسلام وليس معنى النافلة في هذه الآية ما يجوز فعله وتركه، فإنه على هذا الوجه لا يكون خاصا به عليه الصلاة والسلام، بل معنى كونه التهجد نافلة له أنه شيء زائد على ما هو مفروض على سائر الأمة.
وقد كان المؤمنون يصلون مع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ورمت أقدامهم وسوقهم من القيام، فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في آخر السورة: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطآئفة من الذين معك..} [المزمل: 20] إلى قوله: {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن} [المزمل: 20] الآية.
قال ابن عباس: وكان بين أول هذا الإيجاب وبين نسخه سنة.
وقال جماعة من المفسرين: ليس في القرآن سورة نسخ آخرها أولها سوى هذه الآية.

.الحكم الثاني: هل تجوز قراءة القرآن بالتلحين؟

أمر الله جل ثناؤه بترتيل القرآن {ورتل القرآن ترتيلا} أي اقرأه على تؤده وتمهل وتبين حروف، بحيث يتمكن السامع من استيعابه وتدبر معانيه.
ولا خلاف بين العلماء أن قراءة القرآن بالترتيل بمعنى التجويد، وهو تبيين الحروف، وتحسين المخارج، وإظهار المقاطع حسن مطلوب، إنما الكلام في التغني به وتلحينه هل هو جائز أم ممنوع؟
وقد اختلفت فيه آراء الأئمة الفقهاء، تبعا لاختلاف الصحابة والتابعين، ونحن نذكر مذاهبهم مع أدلة كل فريق بشيء من التفصيل، فنقول ومن الله نستمد العون:
مذاهب الفقهاء في القراءة بالتلحين:
أولا: مذهب (المالكية والحنابلة): كراهة القراءة بالتلحين، وهو منقول عن (أنس بن مالك) و(سعيد بن المسيب) و(سعيد بن جبير) و(القاسم بن محمد) و(الحسن البصري) و(إبراهيم النخعي) و(ابن سيرين).
ثانيا: مذهب (الحنفية والشافعية): جواز القراءة بالتلحين، وهو منقول عن: (عمر بن الخطاب) و(ابن عباس) و(ابن مسعود) و(عبد الرحمن بن الأسود بن زيد) وقد ذهب إليه من المفسرين (أبو جعفر الطبري) و(أبو بكر بن العربي).
أدلة المذهب الأول:
أ- حديث: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتهم، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق، فإنه يجيء من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم».
فقد نعى عليه السلام على من يرجع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح على نحو ما يفعله أكثر قرأء هذا العصر.
ب- حديث: «يتخذون القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ليغنيهم غناء».
ج- حديث: «إن الأذان سهل سمح، فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن» قالوا: فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرب المؤذن في أذانه، فدل ذلك على أنه يكره التطريب في القراءة بطريق الأولى.
د- وقالوا أيضا: إن التغني والتطريب يؤدي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه، وذلك لأنه يقتضي مد ما ليس بممدود، وهمز ما ليس بمهموز، وجعل الحرف الواحد حروفا كثيرة وهو لا يجوز، هذا إلى أن التلحين من شأنه أن يلهي النفوس بنغمات الصوت، ويصرفها عن الاعتبار والتدبر لمعاني القرآن الكريم.
وقد سئل (مالك) عن الألحان في الصلاة فقال: لا تعجبني، وقال: إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم.
وروي عن الإمام (أحمد) أنه كان يقول: قراءة الألحان ما تعجبني، والقراءة بها بدعة لا تسمع.
وسئل: ما تقول في القراءة بالألحان؟ فقال للسائل: ما اسمك؟ قال: محمد، قال له: أيسرك أن يقال لك: يا موحامد ممدودا؟
أدلة المذهب الثاني:
واستدل المجيزون للقراءة بالتلحين وهم (الحنفية والشافعية) بأدلة نوجزها فيما يلي:
أ- حديث:
«زينوا القرآن بأصواتكم».
ب- حديث: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن».
ج- حديث عبد الله بن مغفل قال: «لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود» فقال له أبو موسى: (لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا).
هـ- حديث: «ما أذن الله لشيء أذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن».
و- وقالوا أيضا: إن الترنم بالقرآن والتطريب بقراءته من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء، وهو أوقع في النفس، وأنفذ في القلب وأبلغ في التأثير.
وقد روى الطبري: عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول لأبي موسى الأشعري: ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن فيقول عمر: من استطاع أن يتغنى بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل.
وكان ابن مسعود: تعجبه قراءة (علقمة الأسود)- وكان حسن الصوت- فكان يقرأ له علقمة، فإذا فرغ قال له: زدني فداك أبي وأمي.
هذه خلاصة موجزة لأدلة الفريقين، وأنت إذا أمعنت النظر وجدت أن الخلاف بينهم يكان يكون (شكليا) لا (جوهريا) فالفقهاء جميعا متفقون على حرمة قراءة القرآن بالأنغام، التي لا تراعى فيها أحكام التجويد، كمد المقصور، وقصر الممدود، وترقيق المفخم، وتفخيم المرقق، وإظهار ما ينبغي إدغامه، وإخفاء ما ينبغي إظهاره... إلخ، والتي يكون الغرض منها (التطريب) وإظهار جمال الصوت فحسب دون تقيد بالأحكام وآداب التلاوة، كما يفعله بعض الجهلة من قراء هذا العصر، فإن هذا لا يشك أحد في تحريمه.
أما إذا كان المراد ب (التلحين) هو تحسين الصوت بالقراءة وإخراج الحروف سليمة من مخارجها، دون تعقر أو تمطيط، مع تطبيق أحكام التجويد ومراعاة الوقوف والمدود فإن هذا لا يقول أحد بتحريمه، لأن الصوت الحسن يزيد في جمال القرآن، وله أثر في نفس الإنسان، وقد استمع النبي عليه الصلاة والسلام إلى قراءة بعض أصحابه، فأعجب بحسن صوته حتى قال لأبي موسى الأشعري: «لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود» والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال ابن القيم:

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التبتل:
قال الله تعالى: {واذْكُرِ اسْم ربِّك وتبتّلْ إِليْهِ تبْتِيلا} [المزمل: 8] والتبتل الانقطاع وهو تفعل من البتل وهو القطع وسميت مريم البتول لانقطاعها عن الأزواج وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا وقطعت منهن ومصدر بتل تبتلا كالتعلم والتفهم ولكن جاء على التفعيل مصدر تفعل لسر لطيف فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف والتعمل والتكثر والمبالغة فأتى بالفعل الدال على أحدهما بالمصدر الدال على الآخر فكأنه قيل: بتل نفسك إلى الله تبتيلا وتبتل إليه تبتلا ففهم المعنيان من الفعل ومصدره وهذا كثير في القرآن وهو من أحسن الاختصار والإيجاز قال صاحب المنازل: التبتل: الانقطاع إلى الله بالكلية. وقوله عز وجل: {لهُ دعْوةُ الْحقِّ} [الرعد: 14] أي التجريد المحض ومراده بالتجريد المحض: التبتل عن ملاحظة الأعواض بحيث لا يكون المتبتل كالأجير الذي لا يخدم إلا لأجل الأجرة فإذا أخذها انصرف عن باب المستأجر بخلاف العبد فإنه يخدم بمقتضى عبوديته لا للأجرة فهو لا ينصرف عن باب سيده إلا إذا كان آبقا والآبق قد خرج من شرف العبودية ولم يحصل له إطلاق الحرية فصار بذلك مركوسا عند سيده وعند عبيده وغاية شرف النفس: دخولها تحت رق العبودية طوعا واختيارا ومحبة لا كرها وقهرا كما قيل:
شرف النفوس دخولها في رقهم ** والعبد يحوي الفخر بالتمليك

والذي حسن استشهاده بقوله: {لهُ دعْوةُ الْحقِّ} في هذا الموضع: إرادة هذا المعنى وأنه تعالى صاحب دعوة الحق لذاته وصفاته وإن لم يوجب لداعيه بها ثوابا فإنه يستحقها لذاته فهو أهل أن يعبد وحده ويدعى وحده ويقصد ويشكر ويحمد ويحب ويرجى ويخاف ويتوكل عليه ويستعان به ويستجار به ويلجأ إليه ويصمد إليه فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده ومن قام بقلبه هذا معرفة وذوقا وحالا صح له مقام التبتل والتجريد المحض وقد فسر السلف دعوة الحق بالتوحيد والإخلاص فيه والصدق ومرادهم: هذا المعنى فقال علي رضى الله عنه دعوة الحق: التوحيد وقال ابن عباس رضي الله عنهما شهادة أن لا إله إلا الله وقيل: الدعاء بالإخلاص والدعاء الخالص لا يكون إلا لله وحده ودعوة الحق دعوة الإلهية وحقوقها وتجريدها وإخلاصها قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: تجريد الانقطاع عن الحظوظ واللحوظ إلى العالم خوفا أو رجاء أو مبالاة بحال قلت التبتل يجمع أمرين: اتصالا وانفصالا لا يصح إلا بهما فالانفصال: انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله خوفا منه أو رغبة فيه أو مبالاة به أو فكرا فيه بحيث يشغل قلبه عن الله والاتصال: لا يصح إلا بعد هذا الانفصال وهو اتصال القلب بالله وإقباله عليه وإقامة وجهه له حبا وخوفا ورجاء وإنابة وتوكلا.
ثم ذكر الشيخ ما يعين على هذا التجريد وبأي شيء يحصل فقال: بحسم الرجاء بالرضى وقطع الخوف بالتسليم ورفض المبالاة بشهود الحقيقة يقول: إن الذي يحسم مادة رجاء المخلوقين من قلبك: هو الرضى بحكم الله عز وجل وقسمه لك فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق في قلبه موضع والذي يحسم مادة الخوف: هو التسليم لله فإن من سلم لله واستسلم له وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع أيضا فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها فلا معنى للخوف من غير الله بوجه وفي التسليم أيضا فائدة لطيفة وهي أنه إذا سلمها الله فقد أودعها عنده وأحرزها في حرزه وجعلها تحت كنفه حيث لا تنالها يد عدو عاد ولا بغي باغ عات.
والذي يحسم مادة المبالاة بالناس: شهود الحقيقة وهو رؤية الأشياء كلها من الله وبالله وفي قبضته وتحت قهره وسلطانه لا يتحرك منها شيء إلا بحوله وقوته ولا ينفع ولا يضر إلا بإذنه ومشيئته فما وجه المبالاة بالخلق بعد هذا الشهود.
قال: الدرجة الثانية: تجريد الانقطاع عن التعريج على النفس بمجانبة الهوى وتنسم روح الأنس وشيم برق الكشف الفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها: أن الأولى انقطاع عن الخلق وهذه انقطاع عن النفس وجعله بثلاثة أشياء:
أولها: مجانبة الهوى ومخالفته ونهي نفسه عنه لأن اتباعه يصد عن التبتل.
وثانيها: وهو بعد مخالفة الهوى تنسم روح الأنس بالله والروح للروح كالروح للبدن فهو روحها وراحتها وإنما حصل له هذا الروح لما أعرض عن هواه فحينئذ تنسم روح الأنس بالله ووجد رائحته إذ النفس لابد لها من التعلق فلما انقطع تعلقها من هواها وجدت روح الأنس بالله وهبت عليها نسماته فريحتها وأحيتها.
وثالثها: شيم برق الكشف وهو مطالعته واستشرافه والنظر إليه ليعلم به مواقع الغيث ومساقط الرحمة وليس مراده بالكشف ههنا: الكشف الجزئي السفلي المشترك بين البر والفاجر والمؤمن والكافر كالكشف عن مخبآت الناس ومستورهم وإنما هو الكشف عن ثلاثة أشياء هن منتهى كشف الصادقين أرباب البصائر.
أحدها: الكشف عن منازل السير.
والثاني: الكشف عن عيوب النفس وآفات الأعمال ومفسداتها.
والثالث: الكشف عن معاني الأسماء والصفات وحقائق التوحيد والمعرفة.
وهذه الأبواب الثلاثة: هي مجامع علوم القوم وعليها يحومون وحولها يدندنون وإليها يشمرون فمنهم من جل كلامه ومعظمه: في السير وصفة المنازل ومنهم من جل كلامه: في الآفات والقواطع ومنهم من جل كلامه: في التوحيد والمعرفة وحقائق الأسماء والصفات.
والصادق الذكي يأخذ من كل منهم ما عنده من الحق فيستعين به على مطلبه ولا يرد ما يجده عنده من الحق لتقصيره في الحق الآخر ويهدره به فالكمال المطلق لله رب العالمين وما من العباد إلا له مقام معلوم.
قال: الدرجة الثالثة: تجريد الانقطاع إلى السبق بتصحيح الاستقامة والاستغراق في قصد الوصول والنظر إلى أوائل الجمع.
لما جعل الدرجة الأولى انقطاعا عن الخلق والثانية انقطاعا عن النفس جعل الثالثة طلبا للسبق وجعله بتصحيح الاستقامة وهي الإعراض عما سوى الحق ولزوم الإقبال عليه والاشتغال بمحابه ثم بالاستغراق في قصد الوصول.
وهو أن يشغله طلب الوصول عن كل شيء بحيث يستغرق همومه وعزائمه وإراداته أوقاته وإنما يكون ذلك بعد بدو برق الكشف المذكور له.
وأما النظر إلى أوائل الجمع: فالجمع هو قيام الخلق كلهم بالحق وحده وقيامه عليهم بالربوبية والتدبير، والنظر إلى أوائل ذلك: هو الالتفات إلى مقدماته وبداياته وهي العقبة التي ينحدر منها على وادي الفناء وقد قيل: إنها وقفة تعترض القاطع لأودية التفرقة قبل وصوله إلى الجمع ومنها يشرف عليه وهذه الوقفة تعترض كل طالب مجد في طلبه فمنها يرجع على عقبه أو يصل إلى مطلبه كما قيل:
لابد للعاشق من وقفة ** ما بين سلوان وبين غرام

وعندها ينقل أقدامه ** إما إلى خلف وإما أمام

والذي يظهر لي من كلامه: أن أوائل الجمع: مباديه ولوائحه وبوارقه.
وبعد هذا درجة رابعة وهي الانقطاع عن مراده من ربه والفناء عنه إلى مراد ربه منه والفناء به فلا يريد منه بل يريد ما يريده منقطعا به عن كل إرادة فينظر في أوائل الجمع في مراده الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه.
وأكثر أرباب السلوك عندهم إياك نعبد فرق وإياك نستعين جمع ثم منهم من يرى: أن ترك الجمع زندقة وكفر فهو يعرض عن الجمع إلى الفرق.
ومنهم من يرى: أن مقام التفرقة ناقص مرغوب عنه ويرى سوء حال أهله وتشتتهم فيرغب عنه عاملا على الجمع يتوجه معه حيث توجهت ركائبه والمستقيمون منهم يقولون: لابد للعبد السالك من جمع وفرق وقيام العبودية بهما فمن لا تفرقة له لا عبودية له ومن لا جمع له لا معرفة له ولا حال.
فإياك نعبد فرق وإياك نستعين جمع.
والحق: أن كلا من مشهدي إياك نعبد وإياك نستعين متضمن للفرق والجمع وكمال العبودية بالقيام بهما في كل مشهد ففرق إياك نعبد تنوع ما يعبد به وكثرة تعلقاته وضروبه وجمعه: توحيد المعبود بذلك كله وإرادة وجهه وحده والفناء عن كل حظ ومراد يزاحم حقه ومراده.
فتضمن هذا المشهد فرقا في جمع وكثرة في وحدة فصاحبه يتنقل في منازل العبودية من عبادة إلى عبادة ومعبوده واحد لا إله إلا هو وأما فرق إياك نستعين فشهود ما يستعين به عليه ومرتبته ومنزلته ومحله من النفع والضر وبدايته وعاقبته واتصاله بل وانفصاله وما يترتب عليه من هذا الاتصال والانفصال ويشهد مع ذلك فقر المستعين وحاجته ونقصه وضرورته إلى كمالاته التي يستعين ربه في تحصيلها وآفاته التي يستعين ربه في دفعها ويشهد حقيقة الاستعانة وكفاية المستعان به وهذا كله فرق يثمر عبودية هذا المشهد وأما جمعه: فشهود تفرده سبحانه بالأفعال وصدور الكائنات بأسرها عن مشيئته وتصريفها بإرادته وحكمته.
فغيبته بهذا المشهد عما قبله من الفرق: نقص في العبودية كما أن تفرقه في الذي قبله دون ملاحظته: نقص أيضا والكمال إعطاء الفرق والجمع حقهما في هذا المشهد والمشهد الأول فتبين تضمن إياك نعبد وإياك نستعين للجمع والفرق وبالله المستعان. اهـ.